تعرف أن هناك خطأ ما. تشعر أن هناك خطأ ما. شيء بداخلك يشبه الضمير، يشبه الروح، يشبه
العقل، يشبه الإنسان، يؤكد لك أن هناك خطأ ما...
هناك خطأ ما، عندما تخرج وتمارس حياتك بشكل عادي جداً وأنت تعرف أن 25 ألف إنسان
يعيش في بلدك محروم من أبسط حقوقه: الإنتماء، الطبابة، التعليم، العمل، الزواج،
السفر، الهويّة...
لابد أن يكون هناك خطأ، عندما يكون التمييز بسبب المذهب، الدين،
الأسرة، القبيلة، لون البشرة مقبولاً جداً، وعادياً جداً، ومتوقعاً جداً، بل ومرغوباً
جداً...
هناك خطأ، هناك خطأ جسيم، إن كنّا اعتدنا أنّ جنسية معيّنة (جنسياّت
معيّنة) من البشر خُلِقوا فقط لخدمتنا، لا ننظر لهم كبشر، بل كمخلوق ثانوي، لا حق له، لا صوت له، لا مشاعر له، لا احترام له، لا اعتراف به. فقط يخدمك،
ويُحضر طعامك بالمطعم، ويزيل قاذوراتك في الشارع، وتُنْزِل نافذة سيارتك الفارهة
بضع سنتميترات عند إشارة المرور لِتَمدُّ الورقة النقدية باتجاهه، فيأتيكَ راكضاً، لاهثاً، كحيوان جائع...
فعلاً هناك خطأ، عندما تكون أسوأ إهانة يمكن توجيهها للرجل هي تشبيههُ
بالمرأة، وأعظم إطراء للمرأة تشبيه أفعالها بأفعال الرجل...
هناك خطأ فادح، عندما يكون منظر حيوان مدهوس في منتصف الشارع. أمعائه،
ودمائه متطايرة على الإسفلت، منظر طبيعي جداً، لا يدعو للاشمئزاز، ولا التعاطف، ولا الشفقة، لا يدعو للحراك أو التغيير..
هناك خطأ عندما تكون عباءة سوداء هي المعيار الذي يحسم النقاء والطهارة،
وكثافة شعر الوجه هي التي تحسم مدى قربك من الخالق...
هناك خطأ ما عندما يكون الإسراف بالطاقة علامة تدل على الترف،
والإسراف بالأكل علامة تدل على الكرم...
هناك خطأ ما عندما يكون منظر القمامة
في كل مكان لا يزعجنا، عندما يكون رمي القمامة بكل مكان لا يعنينا، ولا يؤرقنا...
هناك خطأ كبير جداً، عندما تمتلئ الشوارع بلوحات دعائية عملاقة، تُقنع المرأة أن تكون
أقصى اهتماماتها، أن يكون شغلها الشاغل، تصغير الأنف، ونفخ الفم، وشد الوجه، تخسيس
الجسد، وتركيب الرمش، وتغيير لون الشعر والعينين...
هناك خطأ عندما يقتنع الرجل تماماً أنه آلهة، لا يُحاسب، لا يُطالب،
رغباته مُطاعة، أهواءه مُجابه، شهواته مشبعة، نرجسيته مُصانة، عنجهيّته لا تُمس، لا شيء يثقل كاهله ولا ضميره، معيار رجولته
عنفه، وارتفاع صوته، وحجم عضلاته...
هناك خطأ جسيم إن كناّ لم نعد نطمح، أو نحلم، أو نجتهد، لأنه لا مكان
بيننا لطامح، ولا حالم، ولا مجتهد في وحل الفساد، والوساطة والمحسوبية...
هناك خطأ كبير عندما ندهس المبدع، ونُتفِّه المبتكر، ونُحقِّر الفنان،
ونُصغّر الاديب ، نهمشهم، نغلّف عقولهم بالأسلاك الشائكة، نُعثّرهم بالخطوط
الحمراء، نهددهم بالسجن والاضطهاد، نُرهبهم بالدين والسلطة، حتى يموت الجمال، ويختفي
الإلهام، وتضيع المعاني والأشياء التي نبحث عنها طوال الحياة، فتُدفن عقولنا
وأرواحنا تحت الغبار والقبح، والجمود، ولامبالاة...
هناك خطأ فعلاً، عندما يصل الفرد إلى مرحلة مخيفة من الجهل، لا
يهمه قراءة أي شيء، ولا تعلّم أي شيء، موقناً أنه لا فائدة من توسيع المدارك ولا تطويرالأفكار. لأنه اكتفى منذ ولادته برأي أبيه، وبرأي جده من قبله...
كم ابتعدنا..
كم ابتعدنا..
كم ابتعدنا..
كم ابتعدنا عن الصواب، حتى خُيّل لنا أن الخطأ الذي انغمسنا فيه انغماس
الخنازير في الوحل، ليس خطأ على الإطلاق.