أسابيع وأشهر من العواصف الرملية الشديدة، صخبٌ
وعجاج، رياح عنيفة ترمي بالأتربة بالوجوه، والطرقات والمنازل، الحياة مصفرّة، باهتة،
جافّة، الخروج من البيت كريه ومُتعب وفقط للضرورة القصوى لجلب الحاجات الأساسية، في
البيت يتسلل الغبار العنيد من تحت البيبان، من الثقوب المسدودة، ينسلّ من النوافذ
محكمة الإغلاق، غبار لعين زاحف كوحش بلا وجه ولا جسد ولا أطراف يدفن الصدور ويُهيّج
الأمراض..
يبدأ التهيّج في عيناي تدريجياً، أشعر برغبة شديدة في حكّهما، صارتا تدمعان بشدّة، يبدأ الألم و الاحمرار، أضع القطرات لأخفف الحساسية،
لا يتوقف الألم ولا يهون الاحمرار، هذه القطرة هي الثالثة من نوعها التي أشتريها
كعلاج، لا فائدة. تشتعل الحكّة وتتهيّج، أضطر لدعك عيناي ليسكن الألم، يتفجّر
العوار، ينتقل بسرعة البرق إلى كل أنحاء وجهي، يبدع الصداع بالضرب، تبدأ تقرحات
البلعوم، الرشح، التصبب، جسدي كله منهك يتداعى لألم عيناي، لا أستطيع رؤية شيء، أستخدم كمادات الماء
الباردة، عيناي فوّهتا حريق، لا بل عيناي بركانان يحترقان ويحترقان، أنهارعلى الفراش، أغطي عيناي بفوطة باردة، أنتظر لتخفّ أوجاعي قليلاً..
يقول لي أحد الأطباء أن الكثير من مرضاه الذين يعانون من
أمراض الصدر والربو اضطروا للهجرة، لم يعد أي دواء قادراً على تخفيف أوجاعهم، صار
التنفس في هذا المكان مستحيلاً..
أُفكر بكل مساجين الرأي، أٌفكر بالمفكرين الذين مُنِعوا
من نشر وطرح أفكارهم، أفكر بكل الكتب الممنوعة، أُفكر بكل ما هو ممنوع، عيب، وحرام، وغلط، أفكر بالخوف الذي يسيطر على الجميع يجعل التقرّب،
والصداقة، والحميمية، والثقة مستحيلة، خوف يجعلنا نفكر مئات المرات فبل التفوّه
بكلمة واحدة، أفكر بالحُفَر التي
نسميها بيوتاً ندفن فيها ذواتنا لنحتمي من واقعنا الغريب، أفكر كيف أنه لا وجود لأي
مكان يستطيع فيه الأطفال الركض أو اللعب، أفكر بالمجمعات التجارية العملاقة حيث يتسابق ويلهث شعب تعيس ملعون محروم لشراء ملابس لا يحتاجها ليجعل التاجر
الثرّي أكثر ثراء.. أفكر كيف الحياة في هذه البقعة التعيسة من الأرض مستحيلة..