إحداهن تقول لي:
نادراً ما يسمح لي والدي بالخروج
ونادر ما نسافر معاً. في الصيف السابق أخذنا إلى لندن، فرحت جداً لأنها أوّل زيارة
لي لِلعاصمة الشهيرة. لكن ما أن وصلنا حتى بدأ أبي بتعامله العسكري معي: لماذا
تضعين المكياج؟ لماذا تتلفتّين؟ إلى ماذا تنظرين؟ لماذا تضحكين؟ صرت أمشي كالرّجل
الآلي، متشنجة، متيبّسة، خائفة، وجهي إلى الأمام أخشى أن ألتفت لأنظر لجمال
الزهور، أخشى أن ألتفت لأنظر لواجهة المحلاّت، أجلس في المقهى أمام أبي ورأسي
منحني للأسفل أنظر فقط في كوب قهوتي، لا ألتفت يميناً ولا شمالاً خشية من التعنيف
أو الصراخ أو التهديد.
امرأة متزوجة تقول: ذهبتُ لإحدى
الوزارات لأنهي بعض الأوراق الرسمية لأحد أولادي، وقد ألحّيت على زوجي مسبقاً لإنهاء
الأوراق لكنه كان دائماً يتعذّر بانشغاله. عندما قلت لزوجي أثناء الغداء أنني كنت
في إحدى الوزارات، صرخ عليّ أمام أبناءنا: "ومن قال لكِ تذهبين؟ ألا تستحين
وأنتِ تمشين بين الموظفين الذكور؟ أليس لديكِ حياء؟ أنتِ لستِ محترمة!".
أخرى تقول أن أخاها كان يهددها يومياً
بإخراجها من الجامعة أثناء دراستها، في كل مرّة يغضب عليها، يهددها بحرمانها من
حقها في الدراسة، حتى بعد أن تخرّجت وصارت تعمل، كلما صرخ عليها هددها:
"حسناً سأخرجكِ من عملك حتى تتأدبين".
إحداهن تقول: كنتُ بالجامعة يوم السبت بسبب
نشاط أكاديمي ثقافي مُقام من قِبل الطلبة، تواصل معي والدي الذي يعلم عن مكان
تواجدي لأنني استأذنته مسبقاً يطلب منّي إرسال "اللوكيشن" عبر الهاتف.
في البداية بسبب سذاجتي أرسلت له "اللوكيشن" ظناً منّي أنه يرغب بحضور
النشاط الذي تعبت أنا وزميلاتي بالتحضير له، ففرحت أنه مهتم ويريد الحضور، أسعدني
اهتمامه بي الذي نادراً ما أراه أو أشعر به، لكن بعد مرور ساعات من دون أن يحضر
اكتشفت أنه فقط يريد التأكد من صدق كلامي، وأنني فعلاً في الجامعة ولم أكن أكذب.
أخرى تقول أن والدها درّب أخاها الذي
يصغرها كثيراً بالسن على مراقبتها وأخواتها. فإذا سافر الأب، تولى الأخ مراقبة
أخواته والتحكم بهن وبتحركاتهن.
عندما لا تخرج المرأة إلا بإذن الرجل،
ولا تدرس إلا بإذنه، ولا تعمل إلا بإذنه، ولا تتزوّج إلا بإذنه، وتعيش طوال حياتها
رهينة تهديداته فالمرأة هي السجينة والرجل هو السجّان. فهل من الممكن أن تتكوّن
علاقة طبيعية بين السجين والسجّان؟ هل من الممكن أن يحب السجّان سجينه؟ أو أن
يحترمه؟ أو أن يثق به؟ أو أن ينظر له كشخص مساوٍ له بالحقوق والحريات؟ طبعاً لا.
الرجل "السجّان" لن ينظر
أبداً للمرأة "السجينة" على أنها انسان كامل، إنسان حر، إنسان ذو أهلية،
إنسان يستطيع أن يحبه ويحترمه ويتشارك معه بالأفكار. لن يقبل السجان أبداً أن ينظر
للسجينة على أنها تقف معه على عتبة المساواة، سينظر الرجل السجّان دائماً للمرأة
السجينة على أنها رهينته وأنه يجب عليه دائماً أن يراقبها، ويشك في نواياها
وأخلاقها، ويعنفها إن هي تجرأت أن تخرج عن طاعته، سينظر لها سواء كانت ابنته،
أخته، زوجته أو عشيقته على أنها ماكرة، لا تفكر بشيء سوى كيف تخدعه وتتملّص من
رقابته وتفعل ما تشاء من دون علمه. يظن الرجل السجان أن المرأة السجينة لا تفكر
ولا تبحث إلاّ عن العلاقات المحرّمة، ولأنه لا يحترمها، فهي في نظره لا تملك أي احترام
لذاتها، وبالتالي لا يستطيع أن يتصوّر أن المرأة تفكّر بأي شيء آخر غير الجنس، إن
أرادت الخروج فهي تريد الخروج للتورّط مع رجل، وإن هي تزيّنت فهي تتزيّن لجذب
الرجل، يظن الرجل السجّان أن المرأة مهووسة بالرجل، مثلما هو مهووس بالمرأة وبمراقبتها
وتقييد حريتها.
المأساة الأخرى التي تحصل عندما يضع
الرجل نفسه سجّاناً للمرأة، هو أن الرجل أيضاً يصبح مقيّد. يجب أن يراقب المرأة
طوال الوقت، ويشك في كلامها ونواياها، وينظر لها بنظرة الريبة. يريد الرجل أن يثق
بالمرأة ويصادقها ويحاورها لكنه لا يستطيع، لا يستطيع أن يحترمها أو يحترم عقلها،
فهو السجّان وهي مجرّد سجينة، هي المذنبة الساقطة، وهو مدّعي الشرف والفضيلة
المسؤول عن تأديبها. يتوق الرجل لخلق صداقة صادقة مع المرأة، صداقة طبيعية خالية
من الرغبة الجنسية، خالية من النفاق والتصنّع لكنه لا يقدر، لا يرى نفسه سوى
العاشق الغيور الشكاك، أو الأب/الأخ الغيور الشكاك، وفي كلا الحالتين فهي تحت
سيطرته وسلطته ولا يمكن أن تتحقق صداقة حقيقة تحت هذه الظروف، تتطلّب الصداقة أن
يرى الطرفان نفسيهما متساويان، لكن الرجل السجّان يعتبر مساواته بسجينته إهانة له.
يريد الرجل السجّان أن يُحب المرأة لكنه غير قادر على احترامها، وبالطبع لا وجود للحب
من دون احترام. حتى العاشق السجّان يرى عشيقته كما يراها أبوها وأخوها، غشاء بكارة
زجاجي هش تنتهي قيمتها بفكّه.
والدها وأخاها يقضيان عمرهم كله في
حراسة ذلك الغشاء الزجاجي، ووضع قيمة مادية عالية لمن يريد أن يكون الأوّل في فكّه
(المهر)، ثم يدفع العريس - الذي كان حبيباً - ثمن الغشاء فتتحوّل حبيبته في نظره
مباشرة من سلعة جديدة غير مستعملة إلى سلعة مستعملة. ويبدأ بممارسة دوره كسجّان،
يراقب ملكيّته المستعملة بشيء من الغثيان والغضب والاستحقار، "أين تذهبين؟ مع
من تتكلمين؟ لمن تتزيّنين؟ اسكتي و اهتمّي بأولادك"، بالأمس كان يحبها! ماذا
حصل؟ لماذا أصبحت رخيصة ووضيعة جداً هكذا في عينيه؟ لأنه لا يمكن للسجّان أن يحب
أو يحترم السجين