20 Nov 2017

الأسرة التعيسة



تشتهر الكويت بالوفرة النفطية. بل يُقال أن الكويت عبارة عن قطعة صغيرة من الأرض تطفو على بحر من البترول. لكن مالا يُقال هو أن الكويت وفيرة بالأُسر التعيسة. فوق موج البترول منازل وقصور فاخرة تملؤها العوائل المفككة الكئيبة، أبواب وأسوار جميلة تخفي وراءها قلوب مشتتة. طوفان من الأحزان والهموم والآلام، جدران تكبت الغضب، والحقد، والضغينة، والكراهية بين أفراد الأسرة الواحدة. أُسر تدعي وتمثّل دور الأسرة السعيدة، الفاضلة، الصالحة أمام الناس، متخفيّة تحت عباءة الدين الزائفة، أو قناع "الأُصول" المُشوّه، وبالواقع هي أُسر ممزقة، ينخرها الكذب، والنفاق في الدين، والنميمة، والسخرية، وانعدام الألفة، والثقة، والأمان.


أتذكر كم كانا دائميّ الغضب والسخط والتعاسة... كنتُ صغيرة ولا أدري ما سبب غضب أُمي الدائم، أنام وأصحو على "الله ياخذكم" و "عمى بعينكم" و "عساكم الموت" و "مالت عليكم"!
أما أبي، فدخوله البيت من العمل سبباً كافياً للرعب، لم يقل يوماً السلام عليكم ولا "شلونكم" فقط يصرخ، "يلاّ يلاّ حطو، حطو الغدا"، يوجه هذا الأمر لأي كائن في طريقه، قد تكون زوجته أو إحدى بناته أو الخادمة، أي أنثى أمامه كفيلة بتنفيذ أوامره.
أصبح عمري 37 سنة ولم أسمع يوماً أبي ينادي أمي باسمها، مخاطبته لها لا تكون إلاّ بالأوامر وهي طبعاً يجب أن تعرف أن الأمر موجه إليها، حتى ولو كانت في غرفة أخرى أو بالحمام، يصرخ الأوامر عند دخوله وخروجه من البيت: "ييبي هذا، حطي هذا، ودي هذاك، يلا بسرعة". وهي بدورها أيضاً لا تناديه باسمه، وإذا أرادت إغاظته، وهي تحب إغاظته معظم لأيام، تتجاهل ولا ترد، أو تدعي أنها لم تسمع! حينها طبعاً يبدأ الصراخ والسب الشتائم واللوم وأسوأ الكلام والأفعال.
كان هو خارج البيت معظم اليوم. وكأن تواجده في البيت يسبب له نوع من الحساسية أو الحكة المزعجة! يعود من العمل عابس، مكفهر، بكامل غضبه وسخطه. نأكل الغداء بصمت، لا نريد أن نثيره، فيصرخ علينا وينهال علينا بالدعاوي السيئة. ولكن أمام الناس وفي العمل فهو مبتسم بشوش، ابتسام وانشراح صدر لا نراهما في البيت، الكلام الطيب الذي نحن محرومون منه منذ ولادتنا، المجاملات، الرقّة واللطف العجيبان بالتعامل. 
يقيم العزائم والولائم  لعشرات الرجال، ونحن نقضي اليوم كله في الطبخ، أولاً في التجهيز، ثم نركض مذعورات من المطبخ إلى السفرة ومن السفرة إلى المطبخ، ثم بقية اليوم في التنظيف وراءهم، كالخادمات تماماً، من دون أن يتفضّل علينا حتى بِ "شكراً" أو "يعطيكن العافية".
يضربها، وتبكي، صوتها مخنوق ومكسور وهي تقول: "بس هذا اللي انت شاطر فيه"، "ما تقدر إلاّ عليّ"
كان شيئاً بداخلي يموت كلما سمعتها تبكي وتصرخ وأنا أعلم أن هذا الرجل التعيس، اللعين الذي يُفترض أن يكون مصدر أمان لنا، هو مصدر حزننا وخوفنا.
والأُم التي يفترض فيها الحنان والطيبة تُحب أن تُنفس كل قهرها منه وغضبها عليه فينا، خصوصاً عندما كنّا صغاراً ولا نعرف، أو لا نستطيع الرد، أو الدفاع عن أنفسنا.
زوجان مضى على زواجهما أربعين عاماً لا يناديان بعضهما البعض بالأسماء! علاقة زوجية خالية من أي احترام، محبة أو أُلفة، علاقة تعيسة مبنية على الجنس فقط.
هي استمرت بالإنجاب من دون توقف، تريد أن تنجب ذكر، وفي كل مرة تنجب بنتاً أخرى، تعاسة أخرى، هَم ٌآخر، قضية أخرى. كيف لامرأة أن تستمر بالإنجاب من رجل يفرح في تحقيرها أمام بناتها؟ بالحط من قيمتها؟ كلما قالت شيء، ردّ عليها "سكتي بس سكتي" ، "انتي شفهمج، انتي شعرفج" ، "سكتي بس سكتي، فكّينا"، ويضحك على كلامها بسخرية واستهزاء متعمداً الحط من قدرها.  كيف لامرأة أن تستمر بالإنجاب من رجل يشعر بالخنقة لمجرد تواجده بالبيت، يكره قربها، ولا يشعر بنفسه إلا بالابتعاد عنها وأبناءها منه؟ 
هي تنجب، وهو يبتعد أكثر وأكثر، يغضب أكثر وأكثر، يصرخ أكثر وأكثر، يسافر أكثر وأكثر، يدخل ويخرج من البيت على وجهه نظرة اشمئزاز وقرف. هي تتمادى بِ "عساكم الموت ياخذكم كلكم وأفتك منكم، ياريتني ما يبتكم"
شعرتُ منذ عمر صغير بأنني هَمٌ وعالة، تمنيت لو أنني ولد بالرغم أنني لا أريد أن أكون ولداً، فقط لأطفئ شيئاً من غضبها وحرمانها، ولكي تتوقف عن انجاب بنات هي لا تريدهن. أنجبتنا فقط لتنهال علينا بالشتائم والدعاوي. حاولتُ كوسيلة للتعايش أن أجعل نفسي مفيدة، أساعد في أعمال المنزل، أهتم بالأطفال، أُصلّح الأشياء المكسورة في البيت، أهتم بالحديقة، أُجهّز كل شيء في حال حضور ضيوف. وعندما بدأت القيادة، أُحضر أغراض الجمعية، أقوم بتوصيل الأطفال للمدارس وإعادتهم للبيت. لكن سخطها وغضبها وشتائمها ودعاويها لم تتوقف. أما أمام الناس، أو بالتعامل مع ابنة جار، أو قريبة لنا، فيكون لسانها أجمل لسان وتبدأ بتغريد أجمل الأناشيد بروعة هذه الفتاة، وأدب تلك الفتاة، وكم هي تحب هذه الفتاة أو تلك. أما بناتها فلا يسمعن غير "مالت عليكم، الله ياخذكم، وعساكم الموت"
علمتنا النميمة والغيبة، تتكلم عن أخواتها واخوانها ووالديها بأبشع صورة، ثم تتكلم عن أعمامنا و زوجاتهم و أبنائهم، تنتقد كل البشر، كأن البشرية كلها فاسدة، وهي أفضل مخلوقة على الأرض. صارت النميمة والغيبة شيئاً عادياً جداً في منزلنا.
عنما كبرت، اكتشفتُ أن عالمي ليس عالماً طبيعياً، أن هناك آباء وأمهات (ليسوا بالضرورة ملائكة) لكنهم لا يستمتعون بتحقير بعضهم البعض، ولا يشنّون حروباً وملاحم بالبيت يومياً أمام أبنائهم الصغار. وإن كانوا يغضبون على أبنائهم أحياناً، فهم لا يدعون عليهم بالموت يومياً. عندما اكتشفت هذا الواقع العجيب، تذمّرت لوالديّ من حال أسرتنا وتعاملهم معنا ومع بعضهم البعض، لكن طبعاً الرد كان: "عمى بعينج ان شا لله، مو قاعدة في بيت؟ مو عندج غرفة؟ مو قاعدبن نييبج و نوديج من المدرسة؟ هذا بدال لا تشكرينا؟ عمى بعينكم الله ياخذكم، عساكم الموت"
وأكثر الردود المفضلة عند أبي" هذيك السنة مسفرينكم"، "شكثركم، الله يقطع ساعتكم"  
اشكثرنا!؟ اشكثرنا!؟ كنتُ أُرددها في نفسي وأضحك وأبكي. كأننا نحن جئنا من مكان غريب وطرقنا باب بيته وطلبنا منه إعالتنا. من جاء بنا في هذه الدنيا التعيسة سواكّ؟
كم هو كريه! وما يجعله أكثر كراهة أنه قصير جداً لدرجة أنه تقريباً قزم. استخلصت أنه لا يشعر برجولته عندما يكون بين الرجال الآخرين، لا ثقة له بنفسه، لذلك يحب أن يضطهد زوجته ويعنفها، ويرعب أبناءه فقط ليشعر بكيانه. 
عندما كان يُسافر، يدعي أن سفره هو بغرض "الشغل"، لكنني لما كبرت عرفت أن كلمة "شغل" تعني "مليت منكم ومن أشكالكم و أصواتكم لي درجة ان مو كافي بس أطلع من البيت، أو أروح الديوانية، لازم أروح دولة ثانية، في قارة ثانية" 
 كلما سافر كان يزيد غضبها علينا آلاف المرّات، في أكثر من مرّة قالت لنا (ولم نعد صغاراً) أن والدنا لم يرغب بنا، لم يرغب بأي أطفال، وقد هددها أكثر من مرة لعدم الإنجاب، أنه منذ البداية قال لها أنه لا يرغب بأبناء ولكنها جاءت بنا الواحد تلو الأخرى. "آنا يبتكم غصب"  تقولها بكل وقاحة وفخر وكأننا لسنا بشر، لسنا بقلوب، وأرواح! نصمت، مصعوقين، مسحوقين بواقعنا التعيس، هل هذه أُم؟ هل هناك أم تفتخر بشيء حقير كهذا فعلاً؟!  
لكنها لم تتوقف عند ذلك، في بعض الزيارات الأسرية كانت تقول أمام الكل: "أنا يوم عرفت انّي حامل "بمنوه" مت من الخوف قمت أصعد وأنزل الدري أحاول أطرح" هل هذا كلام يُقال أمام بناتها، في زيارة عائلية! 
وأخيرأ عندما جاء الولد، أخيراً عندما جاء الذكر، القضيب الذهبي! الحمدلله، لن تنجب هذه المجنونة ثانية! لن تنجب ثانية وتنهال علينا باللوم والشتائم، ستكون سعيدة من اليوم فطالعاً، فلقد جاء الذكر، جاء قرة عينها، أخيراً سننتهي من صراخها وضربها وتعنيفها. لكن بعد شهرين من انجاب الذكر، قالت أنها حامل ثانية! وقتها كنا كباراً أنا في السادسة عشر من عمري تقريباً! ذُهلنا من الخبر، ألم يكفها الذكر؟! الولد الذي طمحت إليه كل حياتها؟!
ثم تذهلنا أكثر في حملها الأخير عندما تقول و بصوت عالٍ أمام خالاتي، وأخوالي، وأبناءهم، وبناتهم، كم هي تعيسة لأنها حامل، وأنها تريد أن تجهض الجنين لو أنها تعرف طبيباً يجري لها العملية! 
كانت الصاعقة غريبة، وقعها اختلف من شخص إلى آخر، البعض اكتفى بلف وجهه عنها كأنه لم يسمع، أما أختها الكبيرة فقالت "شالهحجي أمينة، حرام، عيب، غلط" 
عندما انجبت أختي الأخيرة، أنا التي ذهبت معها للمستشفى، طبعاً أبي ادعى أنه مشغول، دائماً يدعي أنه مشغول عندما تلد زوجته، لدرجة أن شهادة ميلادي تشهد أن عميّ هو المبلّغ عن ولادتي و ليس أبي!
ذهبت إليها بعد الولادة وكان يبدو عليها التعب، فامرأة بسنها لا يفترض أن تنجب، قبّلتها وقلت لها "الحمد لله على السلامة يمّا"، قالت لي وهي تبكي "أبي ولد". في هذه اللحظة عرفت أنني لن أسامحها أبداً، لن أسامحها أبداً، وبالرغم من ذلك قلتُ لها: "قولي الحمدلله، المهم انتي و"البيبي" صحتكم زينة، هذا أهم شي". لكن صورتها تشوهت تماماً وللأبد في عيناي. 
لا ليست أماً، وليست قدوة، وليست مثلاً يحتذى به، وليست مصدراً للحنان، أو العطف، أو الدفء، وليست إنسانة حتى، ليس بالمعنى الصحيح للإنسانية.




أنا أبعد ما يكون عن المثالية، لكنني أحرص يومياً أن أضم ابنتي، أضمها وأُقبلها أكثر من مرّة في اليوم، مهما كانت ظروفي، مهما كنتُ متعبة و حزينة، أضمها بقوّة وأقول لها أنني أحبها، بأنني فخورة بها، بأنني أحبها جداً، وأنها أهم إنسان في حياتي و لا قيمة لي من دونها.