أختى الكبرى شروق أو كما تلقبها أمي شرقوه زقوه
اختي الكبيرة تواصت معي أمس لِتقول لي إني
وسخة، و قحبة، و رخيصة، و واطية، و سافلة، لِتُخبرني كم أنا مشمئزة و حقيرة .. لِتُعايرني
بأن كل ما أكتبهُ في مدوّنتي هو إثبات بأنني وضيعة و مُقرفة! و بأنني أحب تمثيل
دور المسكينة المظلومة و أنني بالواقع منافقة خسيسة.
لم أستغرب منها هذه المسميّات، لكن استغربت
أنها تقرأ مدوّنتي! لم أكن أعرف أنها مهتمة بكتاباتي وأفكاري! تلك الأخت التي لم
تهتم بي يوماً، لا تتواصل معي إطلاقاً، لم نتحاور أو نتحدث أبداً عن أي شيء ذو
أهمية، لم يكن بيننا أي حميمية، أو أخوّة، أو حتى صداقة. تفاجأت أنها تحرص حرص
شديد على قراءة كل ما أكتبهُ هنا، وبأنها تراقبني بِخسّة وصمت، وتدوّن ما تقرأه داخل عقلها الصغير حتى إذا سنحت لها الفرصة تأتي لِتُفرِّغ
كل نفاقها، وسمومها، ورياءها، وضحالة عقلها عليّ.
دعوني أحدثكم قليلاً عن أختي الكبرى. أختي
التي لم تكن يوماً أختاً لي، الأخت الكبيرة عادة (في الأسر المحترمة) تخاف على
أختها التي تصغرها سناً، تحاول حمايتها والمحافظة عليها، تعلّمها التصرّف الصحيح
وتبعدها عن الخطأ أو على الأقل تنصحها بالإبتعاد عن الخطأ، وتحاول أن تكون مثلاً أعلى
يُحتذى به.
أما أختي الكبيرة فلم تكن أي من هذه الأشياء،
من عمر صغير جداً، بدأت بمحادثة الشباب والخروج خلسة معهم، علمتني أن أفعل المثل،
كانت تجبرني أن اخرج معها في ظلام الليل للقاء الشباب في سياراتهم أو في مكان مظلم
حيث لا يرانا أحد. كنتُ صغيرة جداً، في الثالثة عشر من عمري، وهي في الخامسة عشر
من عمرها، كنت أقول لها بأنني خائفة و بأن أحدهم سيرانا و يبلّغ والدينا، أو أن
والدينا سيكتشفان خروجنا في الليل وستحصل مشكلة كبيرة، لكنها كانت تعايرني
"لا تصيرين خوّافة" ، "لا تصيرين ياهل"، "لا تصيرين
حمارة".. تم اكتشاف أمرنا، أمي كانت تبكي كثيراً، وتضربنا وتعاقبنا وتهددنا
بإخبار أبي الذي حتماً سوف يضربنا بل "يذبحنا". بدأت أميّ تحرمنا من كل
شيء، من الخروج، ومن التحدث مع الصديقات على الهاتف. وعندما توقفتُ أنا عن مطاوعة
أختي الكبيرة بمغامراتها الغرامية، استمرت هي من دون أي خوف أو اكتراث، أو تردد،
لم يكن يهمها الألم الذي كانت تسببه لنا جميعاً كأسرة. لم أستطع أن أستعيد ثقة أمي
بي أبداً، حتى عندما توقفت عن اتباع أختي في أفعالها، ثقة أمي بي قد تلاشت تماماً
وصِرتُ أُعاقب مع أختي في كل مرّة يُكتشف أمرها، حتى لو لم أكن معها، أو أحاول مساعدتها.
كانت أختي تعلمني الكذب، وتُعلمني كيف ألفّق القصص والحكايات إذا اكتشفت أمي أمرنا،
وكيف أغطي على فعلتها وأدعي أنها كانت هنا أو هناك عندما تخرج مع أصحابها الشباب.
لازلت أذكر تلك الليلة التي ادعت فيها أختي أنها ستزور صديقتها التي كانت جارتنا،
بيتها كان يبعد بضع خطوات من بيتنا، لكنها في الحقيقة كانت مع شاب، نادتني أمي
لنبحث عنها في الليل بعدما تأخر الوقت ولم تعود، وشاركتنا صديقتها (الجارة)
ووالدها بالبحث عنها، لأننا ذهبنا لمنزلهم بحثاً عنها فقالوا بأنها لم تأتي
لمنزلهم. كان الأمر مخيف، لأن الوقت كان متأخر، وكان الأمر محرج جداً امام والد
جارتنا، الذي رأى الخوف على وجه أمي واضطر لمصاحبتنا للبحث عنه، لكن كان واضحاً أنه لم يعد يرغب لابنته بمعرفتنا. في النهاية
وجدناها مع شاب في السيارة. أو المرّة
التي كنت أساعد أمي بركوب السيارة، كانت مريضة وأبي سيأخذها للمستشفى، فرأيت من طرف
عيني حركة غريبة من الشارع المقابل ولما نظرت، كانت أختي داخل سيارة مع شابان اثنان وكانت
تُلوّح لي وتضحك متشمتة ساخرة. أو المرة التي أكتشفتها أمي تنزل من سيارة شاب و
كانت تلبس "عباية" من دون أي شيء تحتها!
هذا الشاب، تعرفت به أختي بعد سلسلة طويلة من
الشباب، كان اسمه "محمد" وكان يدّعي التدّين. كان يتحكم بأختي، يقول لها
ماذا تفعل، ماذا تلبس، وبماذا يجب أن تفكر. كان يمنعها من الخروج معنا، يقول لها "لا
تخرجي مع أمكِ وأخواتكِ لا أريد أن يراكِ أحد". كانت ترفض الخروج معنا ارضاءً
لحبيبها، صار يمنعنا ابي جميعاً من الخروج لأنه لا يريدها أن تبقى وحدها بالمنزل:
"إما أن تخرجن جميعكن مع والدتكن، أو لا تخرجن بتاتاً" كان يقول. لم نعد
نخرج معاً كأسرة، صارت تبتعد عناّ أكثر وأكثر لأن حبيبها من المذهب الشيعي، وقد
أقنعها أن تتشيّع لِتكون مثله، ففعلت ارضاءً له. كانت أمي تبكي كثيراً، تحاول
اقناعها، تتوسّل إليها أن تعود كما كانت، من دون أي فائدة. لم يعد لأي مناّ أي
قيمة بالنسبة لها، الشخص الوحيد الذي يهمها هو حبيبها، كانت مستعدة أن تُضحي بنا
جميعاُ من اجله. ابتعدت أختي عنيّ، أصبحت غريبة عنّي، لم نعد نضحك، لم نعد نتكلّم،
لم نعد نفرح، لم نعد أخوات. جعلها حبيبها تتغطى تماماً من حجاب وعباءه وغيره، وأقنعها
أن تدخل كلية التربية الأساسية بعد التخرّج من الثانوية حتى لا تختلط بالشباب. تحوّلت
ببضعة أشهر إلى امرأة كبيرة في السن، تعيسة، لا طوح لها ولا أحلام، حلمها فقط
الزواج بحبيبها المتزمّت الذي لم يبدي حتى الآن أي رغبة بالزواج منها. ابتعدت عنا، تلففّت بكسائها الأسود، طمست أحلام وطموح والدينا لها بدخول
كلية الطب او الاسنان أو الهندسة. كانت أمي تبكي وتصرخ وتحاول أن تعيدها لرشدها
بشكل يومي تقريباً، وكان أبي يبكي ويصرخ ويحاول أعادتها لرشدها من دون فائدة، كان يضربها ويهددها بالقتل. كان
بيتنا في حالة عزاء مستمر، الكل حزين، الكل صامت، والكل خائف من الصدمة التالية،
متى ستكون؟ بماذا ستصعقنا أختي هذه المرة؟ وكم سيكون الأمر حزيناً وكئيباً؟ حوّلت
حياتنا إلى جحيم. عندما كنتُ أحاول أن أشرح لها كم تغيّرت كان ردها دائماً: "إكلي خراج انتي ولا تدخلين".
بعدما صار واضحاً أن حبيبها "المتدّين"
لا يرغب بها كزوجة، زوّجوها أهلي من رجل آخر يدعي التدّين. زواجاً تقليدياً سريعاً،
كان الهدف منه التخلّص منها، بتزويجها بأول شخص يتقدم لخطبتها. وبالطبع عادت للمذهب السني لأن الدين والمذهب بالنسبة لها حذاء تلبسه وتخلعه على حسب طلب الرجل الذي أمامها. زوجها ايضاً يتمتع بالتحكّم بها ويشعر بذكوريّته
بالتأمّرعليها وتصغيرها والتقليل من شأنها واستغلالها. هذه هي أختي التي تدعي الفضيلة، التي تضطهدني وتحتقرني، وتلقبني
بالعاهرة الرخيصة وترى نفسها أفضل منيّ لأنها تلبس الحجاب والعباءة وبالتالي فهي محترمة
جداً، وعفيفة جداً، وشريفة جداً. أما أنا التي لم أعد أحب لعب دور تمثيلي وادعاء
الطهارة والدين، لأنني في الواقع لستُ طاهرة ولم أعد أكترث للدين، وأكتب ما يحلو لي في مدوّنتي، فمن الطبيعي أن تلقبني أختي بالوسخة والقحبة..
هذا ما يفعله الدين بِمُدّعين التديّن، النفاق، والرياء، وتحقير الآخرين،
واضطهادهم. لا يشعر المنافق بأي قيمة لذاته إلاّ عنما يُحقر من حوله ممن لا يرغبون
بالادعاء والنفاق والتمثيل كما يفعل هو.
في رسالة كتبها "كافكا" لحبيبته "ميلينيا"،
قال: "أتعلمين يا حبيبتي لماذا أتكلم عن الطهارة؟ لأنني قذر، قذر جداً"