وقفت أمام القاضي في غرفة المداولة. ووقف أحد موكّلي
مكتب المحاماه الذي أعمل فيه. طليقته قد رفعت عليه دعوى نفقة أطفال بعد أن تركها
هي وأبناءه الثلاثة منها من دون إعانة ولا مساعدة مادية، وتزوّج من أخرى وأنجب
منها طفلين آخرين.
لا خيار لي في الحضور معه لأنه موكل للمكتب، لكنني أكره
بشده هذا النوع من القضايا، حيث يأتي ذكر أحمق ويكذب على المحكمة بعد أن حلف
اليمين بأنه فقير ولا يملك الإنفاق على أبناءه! لماذا جئت بهم إن لم تكن قادراً
على الإنفاق عليهم؟ ولماذا تتزوج من أخرى وتنجب المزيد من المتاعب والقضايا إن لم
تكن قادر على الإنفاق على اللذين أتيت بهم من الأولى؟ كان رجلاً سميناً جداً،
ضخماً، بَشِعاً، ذو وجه مزعج، وشخصية منفرّة. وقد أحضر معه شهود من أهله (والده
وشقيقه) لكي يشهدها معه بأنه فعلاً غير قادر الإنفاق! كلاهما على استعداد أن يشهد زوراً
بعد حلف اليمين أن هذا الرجل الأربعيني، البدين، الذي يكاد كرشهُ العملاق أن يمزّق
دشداشته، غير قادر على الإنفاق على أولاده الذين تتراوح أعمارهم بين الخمس والعشر
سنوات. كنتُ أقف هناك مغتاظه، كارهة لوجودي كعون لمثل هؤلاء.
القاضي: أحمد، ليش ما تنفق على أولادك؟
أحمد: ما أشتغل ما عندي راتب!
القاضي: ليش ما تشتغل؟
أحمد: قاعد أدوّر على وظيفة، بس مو لاقي شي!
القاضي: المحكمة طلبت حضور زوجتك في الجلسة السابقة
وسألناها ما إذا كان عندك مصدر دخل، وقالت، وأكدوا الشهود اللي معاها، بأنك تملك
صالون بالسالمية ومعهد تدريب أيضاً في السالمية.
أحمد: لا والله يا حضرة القاضي، ما أملك شي!
القاضي: أحمد (وقد احتدت نبرة صوته) يعني عمرك ما اشتغلت،
شلون عايش؟
أحمد: كنت موظف وبعدين استقلت والحين ما اشتغل
القاضي: شكثر صارلك من دون وظيفة؟
أحمد: (يفكر) ثلاث سنوات
القاضي: ثلاث سنوات من غير دخل! (الدهشة وعدم التصديق في
نبرة صوت القاضي) اشلون عايش؟ شلون تصرف على زوجتك الحالية وأولادك منها؟
أحمد: زوجتي اهي اللي تصرف عليّ وعلى أولادنا
القاضي: (بعد برهة صمت نظر فيها إليه بدهشة واستغراب
وبعض الإحتقار) أولادك من طليقتك لهم حق عليك إنت ملزم فيهم و بمصروفاتهم.
أحمد: أُمهم تشتغل وراتبها زين
القاضي: إنت أبوهم لازم تنفق عليهم، هذا وفق الشرع
والقانون. يبت شهود؟ نادلي الشاهد الأوّل، والدك.
(دخل الشاهد الأول، والد أحمد)
القاضي: قول والله العظيم أقول الحق ولا أقول غير الحق
(بعد أن حلف اليمين، وسأله القاضي ما علاقته بالمدعى
عليه أحمد، وأفاد بأنه والده)
القاضي: أحمد موظف؟ أو عنده أعمال حرّة؟ شنو مصدر دخله؟
والد أحمد: ما يشتغل وما عنده مصدر دخل
القاضي: شلون عايش؟ منو يصرف عليه وعلى زوجته وأولاده؟
والد أحمد: زوجته تصرف عليه وعلى أولادها منه.
(نادا القاضي الشاهد الثاني، شقيق المدعى عليه، وحلّفه
اليمين، وسأله عن علاقته بأحمد، فأفاد أنه شقيقه)
القاضي: أحمد أخوك شنو يشتغل؟ شنو مصدر دخله؟
شقيق أحمد: ما يشتغل ما عنده مصدر دخل
القاضي: شلون يصرف على نفسه وزوجته وعياله؟
شقيق أحمد: زوجته تصرف عليه وعلى أولادهم.
.........................................................................
أرى الكثير من هذا النوع المخجل من البشر، مستعد أن
يكذب، ان يشهد زوراً، أن يأتي بأهله ليشهدوا زوراً معه، على أن يؤدي دوره كرجل، كأب
ويُنفِق على أولاده. تذكرتُ طليقي الخسيس، بعد أن توقف عن أداء النفقة التي اتفقنا
بعد الطلاق أن يؤديها لابنته، اضطررت لرفع دعوى. دافع محاميه عنه مدعياً أنه غير
قادر على أداء النفقة لأن لديه أولاد من زوجته الجديدة وكذلك لديه مسؤوليات مادية
كثيرة، منها أنه يتبرع بمبلغ شهرياً لجمعية خيرية. ضحكتُ كثيراً على غباءه وحمدت
الله كثيراً أنه خلصني منه، وفرحت بحكم المحكمة الذي أنصفني بنفقة أكبر من التي
كان يدفعها لي ودياً قبل أن يمتنع، وكتب القاضي في حكمهِ معلقاً على نكتة التبرع
لجمعية خيرية: "كان من الأولى أن يؤدي المدعى عليه نفقة ابنته بدلاً من
التبرّع لجهة خيرية".
تم تغيير اسم الموكّل في النص.