22 Jul 2017

انعدام الرجولة وانتشار الذكورية 1


  

وقفتُ بقرب المصعد، في أحد ممرات الدور الثامن من محكمة الرقعي القديمة الرثة، انتظر وصول الموكلّة من السجن، لأذهب معها إلى غرفة وكيل النيابة الذي طلب استدعائها للتحقيق. الدور الثامن من المحكمة مخصص لمكاتب وكلاء النيابة. الجدران مصفرّة متسخة تشوهها الخدوش والشقوق وآثار أحذية سوداء! هل هناك من يمشي على الجدران؟ ثم فكرت أنها قد تعود لأولئك الذين يتعبون من الانتظار في الممرات، فيسندون ظهورهم للحائط، يرفعون قدماً للخلف، لاصقين قاع الحذاء للجدار، ليرتاحوا قليلاً. لم يكن هناك أي مقاعد للجلوس والانتظار، لكن الآثار كثيرة ومنتشرة في كل مكان، وكثير من دمغات الأحذية الوسخة تشير للأعلى لا الأسفل!

 رائحة الحمامات الكريهة مختلطة برائحة وجبات إفطار الموظفين الكُتّاب، صمّون البيض والجبن والفلافل التي تثير الغثيان، تتصاعد مع ادخنة السجائر الخانقة، ولازالت الساعة التاسعة صباحاً، ترى كيف يكون الأمر في نهاية يوم متعب وطويل؟

 انفتح باب المصعد وظهرت الموكلة. تفاجأت أن من يرافقها من مركز الحبس رجل وليس امرأة، ومعهما سجينان آخران كلاهما ذكور. بالرغم أنه كان من المفترض أن السجينة الأنثى ترافقها امرأة. استفسرت عن الأمر، فردّ عليّ المرافق أنه لم تكن هناك مرافقة انثى متوفرة في ذلك اليوم، وبما أنه كان سيحضر السجينان الآخران، فقرر احضار الفتاة معهم أيضاً. أردت أن أقول بأنه لا يصح ذلك، لكنني لم أفعل، لا أدري ما إذا كنت قد خشيت من احداث ضجة غير مبررة، أو أنني خشيت أنه فعلاً يجوز له احضارها مع السجينان الآخران، وأكون أنا المخطئة.

أخذ المرافق السجينان الذكور إلى غرفة مخصصة، القيود التي تكبّل أرجلهم تضمن عدم هروبهم. اتجهنا أنا وهو والفتاة إلى غرفة وكيل النيابة، وجهها كان شاحباً، مُتعباً، وقد قالت لي أنها لم تنم منذ يومين.

في الغرفة الصغيرة بجدرانها الصفراء لم يكن هناك سوى مكتب ضخم، يجلس خلفه وكيل النيابة، بجانب المكتب كرسي يجلس عليه الكاتب الذي كان يلبس ملابس رياضية (سبورت)، (تي شيرت) فسفورية اللون، بنطال رمادي (ترينغ)، وقبعة (كاب)، وسلسلة فضية حول رقبته! في زاوية المكتب كانت هناك خزانة صغيرة خالية تماماً، ومقابل المكتب، أريكة من الجلد الأسود تكفي لشخصين، حيث جلست أنا والموكلة. بدا على المُرافق أنه يعرف وكيل النيابة والكاتب جيداً، سلامهم كان حاراً، كالأصدقاء. سأله وكيل النيابة، ضاحكاً، واثقاً، مستخفاً بمركزه، والمكان الذي هو فيه، والأشخاص الموجودين:

"ها.. يقولون تزوجت الثانية؟"

"لا هاذي الثالثة"

"كفو والله كفو، رجّال"

ضحك الثلاثة ضحك عالٍ صاخب مستهتر كالذي ممكن أن يحصل داخل الديوانيّات، أو المقاهي القديمة الوسخة التي يكون روّادها فقط من الذكور، وأعطاهُ الكاتب علامة الصفقة العالية باليد (هاي فايف)، وقال له: "يلاّ، ربّعهم". أي أضف إليهم زوجة رابعة.

"لا، وأزيدك من الشعر بيت" قال المرافق "الثالثة إهيَ اللي خاطبتني"

سأل وكيل النيابة باستمتاع شديد: "ها، شلون؟"

فردّ المرافق متفاخراً: "إي والله، اهي اللي قالتلي، أبيك، أبي أتزوجك"

"زلم والله زلم" كان رد وكيل النيابة. وكرر الكاتب تبريكاته واعجابه، وسط الضحك وعدم المبالاة.

اقشعر بدني، شعرتُ بالغثيان. ماذا عساي أن أقول؟ إلى أين أوجه نظري؟ لا أستطيع حتى أن أنظر لوكيل النيابة وأطلب منه أن يبدأ التحقيق؟ هل يعقل ما قد حصل للتو؟ لم أستوعب كم كان الموقف مخزياً ومقززاً.

هل يعقل أن يدور مثل هذا الحوار المنحط في مكتب وكيل نيابة؟ هل من المعقول أن يكون شخص مثقف ومتعلم ومتخرج من كلية الحقوق وحاصل على معدل عالٍ، وتم اختياره من بين مئات، بهذا المستوى من الأخلاق؟ يتحدث بمثل هذا الأسلوب؟ في مكان عمل من المفترض أن يكون محترماً. أهذه نتيجة تدخل الواسطة في اختيار وكلاء النيابة أم أن الذكور فعلاً وصلوا لهذا المستوى من انحدار الذوق وانعدام الإحساس. اسم عائلته قبيلة معروفة، أناقته تدل على أنه يحب الأشياء الثمينة، سجادة الصلاة الموضوعة على حافة الأريكة التي أجلس عليها تدل على أنه يصلي، أو على الأقل أنه على علم بتعاليم الدين. لكن إذا كانت التربية قد فشلت، والتعليم قد فشل، والدين قد فشل في تكوين الرجل ما الذي سينجح؟

خرج المرافق، وبدأ وكيل النيابة يتحدث بعنجهية وكبرياء:

"أشوف وكالتج أستاذة، وعطيني كرنيه المحاماة"

أخذهم منىّ ورماهم على الكاتب، وأمره أن يقوم بتصويرهم.

التفت للفتاة بازدراء: "ها شيماء، اشلونج؟ زينة؟ متعاطية مرّة ثانية ها! أبوج اللي مبلغ عنج، تدرين؟"

أغاظتني نبرة صوته، لم ترد شيماء، هزّت رأسها بالنفي فقط. كانت تنظر ليديها بعينان شاخصتان مرهقتان، وجهها حزين كئيب، جسدها نحيل جداً، جسد مريض ومُتعب. أحزنني منظرها، أحزنني الموقف، فتاة جميلة رقيقة، متعلمة وصغيرة في السن، كيف وصَلَتْ إلى هنا؟

تفاجأت عندما بدأ وكيل النيابة بإشعال سيجارة، ثم قام الكاتب بإشعال سيجارة أيضاً! 

أردت أن أقول شيئاً، أردت أن أعترض. أردت أن أطلب منه أن يتوقف عن التدخين، انتقلت عيناي بسرعة منه إلى الكاتب، ثم إلى وكيل النيابة مرّة أخرى. لا أدري ماذا أقول، هل أقول: لو سمحت استاذ ممكن ما تدخن؟ أو أقول لو سمحت أستاذ أن أعاني من مرض الربو ودخان السجائر يؤذيني؟ (بالرغم أن آخر نوبة ربو أصابتني كنتُ في الخامسة عشر من عمري). هل أقول أنه ليس من المهنيّة أن يدخّن اثناء التحقيق في مكتب صغير مغلق و خصوصاً بوجود نساء؟ هل أكون صارمة في نبرة صوتي؟ غاضبة؟ جادة؟ أم مبتسمة متسامحة؟ شعرت بضيق شديد، لم أقُل شيئاً حتى الآن! إن كنتُ سأعترض فيجب أن أتكلم الآن، إذا أجّلت اعتراضي أكثر سيكون الأمر غريباً وغير طبيعي! ثم نظرت إلى شيماء. لازالت تحدّق بيديها. هل إذا طلبت منهم الإقلاع سيطلقان ضحكة ساخرة ويقولان "هاذي تتعاطى" قاصدين بازدراء أنها تستنشق ما هو أسوأ بكثير من الدخان فلماذا يراعونها. وأنا؟

خلال هذه البرهة التي أثرتُ فيها أكثر من طريقة بعقلي لأطلب منهما الإقلاع ولم أفعل، سأل فيها وكيل النيابة شيماء إذا كانت تتعاطى، فقالت لا. سجّل الكاتب. فقال لها أن والدها طلب منهم أحالتها إلى مركز إعادة تأهيل المدمنين لكي تتعالج وأنه أفاد بأن ابنته تتعاطى ويريد لها أن تتعافى. ردت شيماء وقالت أنها لم تتعاطى منذ زمن وأنها مستعدة لأجراء أي تحليل لإثبات ذلك. وأنها بالفعل أجرت تحليل قبل يومين لتثبت لوالدها انها لم تعد تتعاطى. كانت نتيجة تحليل شيماء في ملفي، أخرجتها ومررتها له، فضحك وكيل النيابة ساخراً "تحليل بعيادة خاصة؟ يكتبون لج إللي تبين". فكررت شيماء أنها مستعدة لعمل أي تحليل آخر في مركز إعادة التأهيل لتثبت خلو جسدها من أي مواد.

اشكثر صارلج من تعاطيتي آخر مرّة؟

ما ادري... أشهر.

جم شهر يعني؟

ثلاث أو أربع شهور.

طلب من الكاتب أن يثبت كلامها، وفي هذه اللحظة دخل المرافق مرّة أخرى، ليأخذ شيماء. طلبت شيماء من وكيل النيابة أن لا يحبسها، طلبتُ أنا منه اطلاق سراحها لأنها لم تتعاطى منذ شهور كما أكدت وأنها مستعدة لعمل تحاليل لإثبات ذلك. بدأ المرافق ووكيل النيابة يؤكدان لي أنها لن تُسجن بل فقط سيتم إيداعها في مركز المدمنين لتتعافى. توسلّت شيماء أن لا يودعوها في المركز وأنها تكره ذلك المكان حيث يعاملون المدمنبن أسوأ معاملة وأنها فقط تريد العودة للبيت. ردّ وكيل النيابة بأنها إذا ذهبت للمركز وعملت التحاليل وفعلاً كانت نتيجتها سلبية فسيسمحون لها بالعودة للبيت.

 حاولتُ اطمئنانها عندما ذَهَبَت معه وآنا لا أعرف مصيرها. خرجتُ من المحكمة أشعر بالتعاسة، قدماي ثقيلتان، قلبي متعب. تتردد في ذهني ضحكاتهم الدنيئة، كلماتهم البذيئة، سلوكهم المنحط.






تم تغيير اسم الموكلة في النص