كنتُ في محكمة المهبولة، أكثر الأماكن في العالم بؤساً.
محكمة المهبولة، ليست محكمة بالمعنى الصحيح، بل مجموعة من العمارات السكنية التي تحيطها
القمامة، كل بناية مكوّنة من عدة أدوار، وفي كل دور عدد من الشقق. والشقق ذاتها هي
قاعات التقاضي ومكاتب الموظفين الإداريين. في هذا البلد البائس الخالي من التخطيط
السليم، أو القرار الصائب، يتم تحويل بنايات سكنية، في منطقة سكنية مكتظة، لا تحوي
حتى على مواقف للسيارات إلى محاكم!
وقفتُ في الدور الخامس من المحكمة الكلية، حيث يوجد ممر
بين كل قاعة محكمة (أو شقة وفقاً للتخطيط الأصلي للمبنى). كنتُ
أنا وعدد هائل من الناس: محاميين، مندوبين، رجال أمن، والمتقاضيين، ننتظر حاجب
الجلسة ينادي على رقم قضايانا، لندخل غرفة المحكمة ونقف أمام القاضي.
لاحظت من بين الناس (ولم يكن من الصعب ملاحظتهم) امرأة تنتظر دورها وتنظر للأرض خوفاً وخجلاً، وتغطي وجهها
بنظارات شمسية كبيرة، ورجل يبدو وكأنه زوجها يخاطبها بأسلوب فيه الكثير من التحقير
والازدراء! كان يردد ذات
العبارات بعنف و حِدّة واضحة للجميع: "يلاّ امشي جدامي"، "يلاّ ردي
البيت وياي، يلاّ خلصينا"، "يلاّ جدامي"، "يلاّ عن الخرابيط..
يلاّ"
كلاهما بدا في الخامسة والأربعين من العمر، والمرأة لا
ترد عليه، بل تنظر للأرض فقط، وتحاول الابتعاد عنه قليلاً لكن بسبب الزحام، وبسبب
ضيق المكان لم تستطيع الفرار منه.
بالرغم أنني كنت خائفة، إلاّ أنني لم أستطع الوقوف، بلا
ردّة فعل. معاملتهُ الدونية لها وطريقتهُ في تحقيرها ودفعه لها لتترك المحكمة،
حيثُ بالتأكيد جاءت للمطالبة بحق من حقوقها، جعل دمي يغلي غضباً، الكل كان يسمع
ويرى ما أسمعه وأراه أنا، ولم يتدخل أحد بالرغم من وجود الكثير من الرجال. اتجهت
إليهم وخاطبتها هي أولاً:
"أختي، هذا الريّال مضايقج؟"
(رفعت رأسها باتجاهي، لكن لم ترد، من شدّة الخوف والحَرَج)
فخاطبتهُ هو:
"انت قاعد
اتضايقها؟"
(رد عليّ يصرخ غاضباً)
"زوجتي، قاعد أتفاهم معاها، أنتي شكو؟"
"التفاهم معاها كان له وقته ومكانه، في البيت. بس
لما زوجتك توصل لمرحلة رفع دعوى في المحكمة، معناها خلاص، ما عاد في مجال للتفاهم،
وبأنها يأست منّك ومن التفاهم معاك. والأمر الحين كلّه في يد القاضي، إِنت مالك أي
كلمة، أو رأي، أو حق"
(كان قلبي يخفق بشدة وكنت خائفة جداً، حيث كان شكله
مخيفاً، بشعاً، عيناه جاحظتان، حمراوان، ذو وجهه مِسْوَد، كان يتصبب من العرق من
شدّة الإنفعال. زاد غضبه وقال بسخرية واحتقار)
"وانتي شدراّج إن مافي مجال للتفاهم، تعرفيناّ؟
نعرفج؟ انتي شكو؟ يلا يبا توكلي، يلا روحي لا تدخلين"
"ما اسمح لأي ريّال، أو بالأصح لأي ذكر مثلك يهين
أي مرأة،.زوجتك يت هني اتطالب بحقها و ما راح تطلع من هني إلاّ ماخذه حقها، و إذا
كلمتها أو هددتها مرّة ثانية راح اتصل بالشرطة ياخذونك"
(سمعت بعض النساء الواقفات حولنا يقولون بصوت خافت
"إيي والله صاجة"، وبعض الرجال يقولون بصوت خافت من بعيد جداً كأنهم يريدون
التدخل ويخشون العواقب، "يا جماعة قولوا لا الاه إلا الله". كان يحدق بي
بشده، وكراهية، وطغيان، وكنت أٌعيد التحديق به، ليفهم أنني لستً خائفة وبأنني لن
أتنازل. فضحك ضحكة ساخرة و ردّ علي بقمة الإزدراء)
"يلا اتصلي بالشرطة، الظاهر انج مينونة (أطلق ضحكة ساخرة
أخرى، أشار إليّ
بيده وخاطب زوجته) هاذي معقدة مسكينة! الظاهر تبيج اتوكلينها
بالقضية (ضحكة ساخرة أخرى) تبي تستفيد مسكينة!"
(لم أزيح نظري عنه، واستمريت يالتحديق به متحديّة وردّيت
عليه بنفس الأسلوب الساخر)
"مو كل الناس مثلك بس يفكرون بمصلحتهم
الشخصية"
(بدأ يمسح العرق من جبينه بيده، ويمسح يده بدشداشته،
ولازال العرق يسقط على وجهه ويزداد غزارة)
نظر لزوجته وقال: "شفتي شلون فشلتينا؟ فضحتينا جدام
الناس؟"
ردت زوجته بصوت خافت جداً يكاد يكون همساً، لم يسمعه أحد
غيري "والله محد فاضحنا جدام الناس غيرك"
كنتُ ملتصقة بزوجته لأحول بينها وبينه، فَهَمَسَتْ لي: "مشكورة
حبيبتي، وخري عنه ترا هذا حيوان يمد ايده على طول، ما يخاف من الله". لكنني
استمريت بالوقوف بينها وبينه لكي لا يوجه لها أي تهديد آخر بترك المحكمة. حضرتُ
معها جلستها بالرغم انها ليست موكلتي، وبعد ذلك مشيت معها إلى خارج المحكمة،
حدثتني عن تعنيفه لها، يضربها باستمرار، يضرب بناته باستمرار، يسبها، يهينها،
يهددها بالقتل، يسرق منها، يوقعها على شيكات وقروض لا تستطيع الوفاء بهم، تعرف عن
علاقاته بنساء أخريات منذ أعوام. يأخذ أموالها ويعطيها لصديقاته، لم تعد تطيق
الحياة معه، لم يعد هناك أي أمل، يأَست منه ومن المعاناة التي تعيشها. رأيته
يراقبنا من بعيد بغضب وكره واضحان، ولازال يتصبب عرقاً! لم أملك أي كلمات للتخفيف
عنها، غير أنني قلت لها أنها إذا احتاجت لصديقة تسمعها فيمكنها الإتصال بي، ورحلتُ
بعدما تأكدت بأنها ركبت سيارتها ورَحَلَتْ.